أيتها السيدات الفضليات،

أيها السادة الأفاضل،

تتواصل الذكريات، و تتوالى الـمحطات، الواحدة تلو الأخرى، فتتيح لنا إحياء الـمآثر و الأمجاد، واستحضار القيم و الـمثل التي تَحَقَّق بها انبعاث الجزائر وانتعاشها بعد سبات، و بزوغ فجرها الجديد بعد الليل الاستعماري الدامس الذي لفها في حناديسه لقرن و يزيد.

إنه مارس، شهر الشهداء، هذا الذي تحيي فيه الجزائر ذكرى عدد جمّ من أبطالها الخالديـن. إنه مارس، شهر الحرية، حرية الـمغرب العربي، شهر استقلال تونس والـمغرب الشقيقيـن، الشهر الذي أشرق فيه فجر الحرية على الجزائر عام 1962.

إن يوم 19 مارس من عام 1962 هو اليوم الذي حققت فيه الثورة الجزائرية الـمباركة ما ناضل الشعب الجزائري وكافح من أجله منذ 1830 .

و في اقتران يوم نصر الجزائر هذا بذكرى الشهداء، وتحرر الـمغرب العربي، رمز عميق الدلالة و الـمغزى، بالنسبة لحاضرنا و مستقبلنا.

إنّ يوم 19 مارس هو يوم جاء فيه الحق و زهق الباطل ، إنه يوم انتصر فيه الشعب الجزائري على الإستعمار، و بلّغه رسالة قوية هي نتاج الـمسيرة التي خاض غمارها عبر تاريخه النضالي الطويل، يومٌ رسّخ قدم الأمة الجزائرية في الـمجد وأبان عن إبائها وشموخها، وعن تضحيات أبنائها الأشاوس و فرسانها الـمغاوير في سبيل الحرية و الانعتاق.

أيتها السيدات الفضليات،

أيها السادة الأفاضل،

إنني، اليوم، أستحضر معكم، في الذكرى الغالية هذه، من بيـن ذكريات أمتـنا، محطة هامة من تاريخ شعبنا أثبتت عبقرية أبنائه وجدارته بالسيادة، وبالعيش حرا طليقا من الأكبال و الأغلال التي لطالـما قيدته. كان الشعب هو البطل، و كانت الهبة الوطنية الكبرى في ربوع وطننا الـمفدى واحدة مُوَحَّدة، انبعث منها الانتصار وانبجس منها الخلاص.

إن يوم النصر هذا هو يوم الحق، الحق الذي تسلح به الشهداء والـمجاهدون و أكسبهم القوة ليُجابِهوا عدوا طغى وتغطرس و دمّر أسباب الحياة البشرية الكريمة في الجزائر كلها، واستعمل أبشع وأخطر أنواع التقتيل والتعذيب و البطش والتـنكيل، عدوا تصدى له شعبنا الأبي بخيرة أبنائه من الشهداء والـمجاهديـن الذيـن ضربوا أبلغ الأمثلة في الفداء والتضحية، و رسموا أروع صور البطولة والاستبسال، وجابهوا العدو بأخلاقيات تسمو فوق الـمعاني، فصاروا أهلا لاعتزاز الوطن ولتباهيه بهم، جيلا بعد جيل.

في مثل هذا اليوم، نتذكر كل الذيـن ضحوا، منذ أن اجتاحت جحافل الـمحتل هذه الأرض الطاهرة، بمهجهم من أجل أن تحيا الجزائر حرة مستقلة، أولئك الذيـن هم أهل لاعتراف كل الشعب الجزائري الأبدي لهم بالجميل. و نتوجه بالإكبار و العرفان إلى كل مجاهداتـنا ومجاهديـنا الأمجاد، الأحياء منهم والأموات، و إلى كل من ناصر القضية الوطنية، من داخل الوطن و من خارجه، وأسدى لها الدعم و الـمساندة.

إن الثورة الجزائرية الـمجيدة، التي تـندرج في ديـنامية كفاح الحركة الوطنية و تستمد منطلقاتها من بيان أول نوفمبر 1954 التاريخي ، فرضت نفسها كأسوة للعديد من الثورات عبر العالـم، و، من ثمة، ساهمت بقوة في حصول بلدان شتى على استقلالها، وذلك بفضل إنجازاتها وتضحياتها الـمبنية على قيم ومثل عليا جعلت منها مرجعا عالـميا لسائر الشعوب الـمستعمرة التواقة إلى الحرية والكرامة و السيادة.

أيتها السيدات الفضليات،

أيها السادة الأفاضل،

إننا نفتخر و نعتز، في هذه الذكرى، بما أنجبه الشعب الجزائري من أبطال كانوا صناديد في مجابهة العدو في ساحات الوغى، و فطاحل على طاولات الحوار، تجسيدا للعبقرية الجزائرية، فكان مسعاهم درسا مكللا بالنتائج التي أثمرت بها الـمفاوضات. إن إعلان وقف القتال جاء غلابا، و تمّ افتكاكه بقوة السلاح و إصرار جماهير شعبنا على الصمود و رفضها البقاء تحت السيـطرة الاستعمارية.

وهما العاملان اللذان إعْتَدَّ بهما الوفد الجزائري الـمفاوض فظفر بما تَتَوَّجَتْ به ملحمة تاريخية طويلة بدأت بالـمقاومة الشعبية وامتدت إلى الحركة الوطنية ثم إلى ثورة التحرير الـمجيدة، ملحمة كرست بطولات شعب وفرضت، بقوة الإيمان و الإخلاص والوفاء، الرسالة الأبدية لجزائر الحرية والاستقلال و السيادة.

في هذا اليوم، انتهى الـمستعمر إلى الإقرار بأنه ليس له من مخرج سوى توقيع إتفاقيات إيفيان، بعد أن باء بالفشل كل ما استعمله من الأساليب الجهنمية لكسر صمود ثورتـنا التحريرية. و جاء النصر بعد أن قدم الشعب الجزائري ثمنا غاليا قوامه قوافل من الشهداء و الآلاف من الأرامل والأيتام ومئات الآلاف من السجناء والمعتقلين والمعطوبيـن، فضلا عن تدمير الآلاف من القرى والـمداشر و تخريب ممتلكات أبناء الشعب الجزائري و نهبها.

إننا نستذكر، اليوم، تلك الـمواقف في ظرف تمضي فيه الجزائر قدما في سائر الـمجالات، سواء في الوعي الوطني الرصيـن و ترسيخ الـمواطنة أو في تكريس السلـم والـمصالحة الوطنية و تثبيت الثقة وتجسيد طموحات شعبنا من خلال البرامج الإنمائية. إنه موعد نؤكد فيه عزمنا وتصميمنا على مواصلة رسالة الشهداء، رسالة نوفمبر، و نحن بصدد الاحتفال الـمخلد للذكرى الستيـن لاندلاع ثورتـنا الـمجيدة، خلال هذه السنة كلها.

إنه لا مندوحة لنا، مواصلة هذه الرسالة، عن فعل ما ننطق به حيـن ننشد نشيدنا الوطني الخالد حيث نقول: ... » صرخة الأوطان من ساح الفداء ... اسمعوها... أكتبوها ... وإقرأوها لبني الجيل غدا ... «، أي أن نوثق أحداث الثورة التحريرية، علـما أن كتابة التاريخ فرض عيـن، و مهمة حيوية للغاية، وأن رواية وقائعه من قبل الذين صنعوه أو عايشوه لا تحتمل التأجيل أو التسويف.

إن كل ما سيُدَوَّن سيفيد، ولا شك، الـمؤرخيـن الأكاديمييـن بالـمعطيات النزيهة الدقيقة حول الأحداث وأبطالها من قِبَلِ من شارك فيها. والغاية من هذا كله هي تعريف الأجيال بأسلافها من القادة الـمنظريـن، والقادة الـمؤطريـن لصفوف الـمناضليـن و الـمجاهديـن والمسبّليـن، واستلهام ذلكم الـمسعى الجماعي الـمنسّق من أجل تحرير الوطن من الاستعمار، الذي أدلى فيه كلّ بدلوه، لبعث مسعى جماعي منسّق من أجل تحريره من التبعية الاقتصادية والارتقاء به إلى مصف القوى الاقتصادية الناشئة.

إن الشعب الجزائري، الذي تكوّن و تثقف في مدرسة الثورة، كان و سيبقى وفيا للعهود التي أخذها على نفسه. وما أنجبته الثورة هو ذلكم البطل الذي سيظل حيّا في وجدان كل جزائرية و جزائري. و إننا مدعوون إلى تقوية حب الوطن، ذلكم السلاح الذي به نقوى على مجابهة كل التحديات و نتغلب عليها.

عليـنا أن نصون أمانة الشهداء الأبرار، إذ إنهم، كما قال شاعرنا الهمام محمد العيد آل خليفة:

" إِنَّهُمْ أَوْفُوا اٌلْعُهُودَ فَهَلْ أَنْـتُمْ لِـميثاقِهِمْ مِنْ الأَوْفِيَاء؟ ".





أيتها السيدات الفضليات،

أيها السادة الأفاضل،

اليوم، و نحن نحيي ذكرى محطة بارزة من محطات تاريخنا، قد يكون من الفائدة أن نعود إلى حاضرنا، ذلك أنه تم، قبل بضعة أيام، التوقيع بالأحرف الأولى على »اتفاق السلـم و الـمصالحة في مالي«، تحت إشراف الوساطة الدولية بقيادة الجزائر.

إننا مرتاحون لإبرام هذا الاتفاق الذي يشكل مرحلة هامة من مسار استباب السلـم و استعادة الاستقرار في هذا البلد الجار.

في هذا الـمقام، يجدر أن نشيد بمستوى النضج الذي تحلى به الأشقاء الـماليون، وبحرصهم على الخروج من الأزمة التي كادت تعصف بلدهم، و ذلك عن طريق الحوار والـمصالحة الوطنية، في كنف الاحترام التام لسلامة مالي الترابية، و وحدته الوطنية، ويزيد من التلاحم للـمجتمع الـمالي.

هذا، و نحيّي ما أبدته الأطراف الليبية من إقبال جاد على مباشرة حوار شامل من أجل تمكيـن بلادها من تجاوز أزمتها الراهنة و بناء الـمؤسسات الضرورية لإعادة إعمارها.

إن الجزائر ستواصل دعمها التام ومشاطرتها الكاملة للجهود الحالية، الرامية إلى تمكيـن الشعب الليبي الشقيق من الحفاظ على وحدته، و سيادته وسلامة بلاده الترابية.

سيظل السعي من أجل استعادة الاستقرار في مالي وفي ليبيا، و غيرهما من بلدان الـمنطقة، الشغل الشاغل للجزائر، من حيث إنه يسهم في تأميـن الظروف التي توفر أسباب النجاعة في محاربة آفة الإرهاب و شبكاته، هذه الآفة التي تشكل تهديدا خطيرا لأمن بلدان الـمنطقة قاطبة.

إننا نتابع ببالغ الانشغال ما يجري في البلدان العربية الشقيقة التي تكابد ويلات ذقنا مرارتها، وتعيش محنا خبرناها، وتسير في متاهات عرفنا مثلها؛ فلا نملك إلا أن نعرب عن حسرتـنا لـما تقاسيه شعوبها من معاناة وأضرار و آلام، و أن نعبر عن تعاطفنا معها في محنتها و مأساتها. و أجدد هنا بصفة خاصة مؤازرة و تضامن الجزائر مع الشعب التونسي الشقيق والجار.

كما ندعو جميع هؤلاء الأشقاء إلى الجنوح، بالتي هي أحسن، إلى رأب الصدع وإصلاح ذات البيـن والتسامي فوق الانقسامات ، و إلى اتخاذ الحوار والـمصالحة سبيلا للخروج من الأوضاع التي تعاني منها و ولوج أبواب السلـم والوئام.

أما على الصعيد الداخلي، فإنني لن أواصل كتابي هذا دون أن أزجي أزكى التحية وأخلص التقدير لسكان جنوبنا عامة وغرداية خاصة، و أزف للجميع عرفان الأمة جمعاء لـما كان لهم من إسهام مشهود وعطاء غير مجذوذ في ثورة التحرير الوطنية و في مسار البناء و التشييد.

إن الاحتفال بعيد النصر بغرداية، هذا العام، يتيح لي فرصة مخاطبتكم، أنتم مواطناتها و مواطنيها وأنتم مواطناتـنا ومواطنيـنا بعيـن صالح، أنتم أبناء جزائرنا العميقة، الـمتشبعيـن بحكمة و تبصر أورثكم إياهما تاريخ عريق كله تضحيات وكد شاق دؤوب في سبيل مغالبة التحديات العاتية التي تفرضها عليكم طبيعة قاسية كأشد ما تكون القسوة، لكنها غنية بكم وأنتم بها أغنياء كأشد ما يكون الغنى بنعم الله و آلائه.

إنكم، بفضل رأس المال، هذا الذي لا يقدر بثمن، والذي كسبتموه بالشجاعة والعطاء و بفضل تمسككم العميق بتعاليم ديـننا الحنيف الداعي إلى التسامح والعمل والكد، صنعتم واحدا من الـمكونات الكبرى لشخصيتـنا الوطنية ماضيا و حاضرا. فعلتم ذلك، كذلك، بفضل جنوحكم الطوعي والصريح إلى السلم، و بفضل ما تتمتعون به من حس بالمسؤولية وبالإخاء كان على الدوام عنوانا لتعاملاتكم و كان له الرجحان في كل الظروف.

إن غرداية تحل منا محل السويداء من القلب. إنها أنجبت من العلـماء جهابذتهم، ومن الشعراء فطاحلهم، و من المعلمين والمهندسيـن و الأطباء أَكْفَاءَهُمْ. و يكفيها فخرا أنها أهدت الجزائر أمثال قطب الأئمة الشيخ إبراهيم اطفيّش و أمثال الشيخ إبراهيم بيوض و أمثال مفدي زكريا وصالح خرفي وغيرهم.

غرداية نابها من الأيام ما نابها، و نالها من الآلام ما نالها، و لحق بها ما أدمى منا القلوب و حَرَّك فيـنا الـمواجع. لقد آن لها أن تعود إلى سابق عهدها من الأمن والأمان و الطمأنيـنة؛ كيف لا و هي التي كانت، على مر العصور والعهود، مهد التعايش والتآلف ورمز التوافق و التثاقف.

دعوني أَحْذُ حُذْوَ شاعر ثورتـنا الهمام، فارس الـمجاهديـن بالفكر و القلـم مفدي زكريا، طيب الله ثراه، و أعلن بكل صدق وإخلاص أن حبي للشعب الجزائري كله واليميـن الدستوري الذي أَدَّيْــتُه، الـمرة تلو الـمرة، يمنعانني أن أفرق بيـن الجزائري وأخيه الجزائري، و أن أفرق بيـن الـمالكي منكم وأخيه الإباضي. إنكم كلكم إخواني، أحبكم في الله والوطن، و أحترمكم و أدافع عنكم لأنكم من خيرة العامليـن لله والوطن في بلادنا.

ما من غيرة تضاهي غيرتي على وحدة أمتـنا الجزائرية إلا غيرتي على وحدة بلادنا الترابية، وما من كره يفوق كرهي للفرقة والتعصب العنصري أو الديـني أو الجهوي، من حيث أتى، بيـن أبناء الجزائر.

إن الدولة لعازمة على مواصلة الجهود وبذل كـل ما وسعها بذله كي يعود الهدوء يعم منطقة غرداية بتمامها. و سترصد كافة الوسائل و الإمكانيات لذلك. إنها ماضية بحزم في سياستها الـمتوخية تعميم التطور على كافة ربوع الوطن. و هي عاقدة العزم على إخراج البلاد مما لا زالت تعانيه من مظاهر التخلف وقصور التـنمية. و الهدف هذا إنما يقتضي تضافر جهود كافة القوى الحية، ضمن مسعى يقوم على الثقة بأن الدولة حريصة كل الحرص على مصلحة الشعب و لا يمكنها البتة التضحية بها مهما كان الـمقابل.

لقد واجهتم، مؤخرا، شأنكم في ذلك شأن أبناء مناطق أخرى من الوطن، صعوبات نجمت عن تضافر وضعيـن، تولد أولهما عن الـمشاكل الـمترتبة عن إدارة مختلف الجبهات التي فتحناها في مسعانا الحثيث من أجل تسريع وتيرة تـنمية البلاد، و ترتب ثانيهما عن التوتر الذي تسببت فيه، في الآن نفسه، تلك الأحداث التي شهدتها الـمنطقة والقيود التي فرضتها عولـمة كاسحة طالت التعاملات كلها.

إنني أتوجه إلى رحابة صدوركم و رجاحة عقولكم، داعيا إياكم أن تكونوا ودولتكم الحريصة عليكم يدا واحدة على الفرقة والشنآن و على التخلف بجميع مظاهره لنكمل، في كنف الوئام و الوفاق، مسيرة البناء التي باشرناها و تجسّدت في برامج وإجراءات خاصة لتـنمية الجنوب.

إن جنوب الجزائر منها و هي منه، لا محيد و لا بديل لأحدهما عن الآخر، بل هما جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.

لقد آلت الدولة على نفسها أن تكون في خدمة أبنائها في كافة أصقاع الوطن، فلا يمكنها التفريط فيهم و لا الإضرار بمصالحهم. إنها الدولة الحانية الرؤوم التي يسوءها جنوح بعض أبنائها إلى عدم الثقة فيها وفي تعهداتها و التزاماتها، وأعني بهم بعض سكان عيـن صالح و ما هم ماضون فيه من احتجاجات رغم كل ما تلقوه من تطمينات.

إن عين صالح في أعيـننا. إنها لـم تبخل على الجزائر بخير أرضها و لـم تضن عليها بخيرة أبنائها. أمدتها بثروة الغاز و بثروة الرجال، فكانت أهلا لامتـنانها و عرفناها ولتخصيصها بالإجراءات والـمخططات الكفيلة بتحسيـن ظروف معيشة أهلها، بل وبتحقيق نَقْلَةٍ نوعية ترتقي بهم إلى مستوى من التطور يضاهي ذلكم السائد في شمال البلاد.

إنه يحز في نفسي ما رأيته، و ما لا زلت أراه، من فتـن رعناء تثبط عزائم أولئك العاملين، ليل نهار، من أجل سعادة الشعب كله و عزة الجزائر وسؤددها. ويعز علي أن أرى البعض من أبناء الـمنطقة يُستدرج إلى الكيد إلى دولة بلاده ، وأن أرى البعض الآخر يـنساق إلى الوقوف موقف الإرتياب والتشكيك في إخلاص قادة دولتهم ونزاهتهم، و إلى الطعن في سلامة وجدوى تدابيرهم وقراراتهم ومخططاتهم الرامية إلى تـنمية البلاد برمتها.

إنني أدعوهم إلى ترجيح الحكمة وتحكيم العقل. فالحفاظ على صحة الـمواطنيـن وعلى البيئة التي يعيشون فيها خط أحمر لا يمكن للدولة، أو غيرها، تتجاوزه. إن المواطنين هؤلاء هم ثروة البلاد الحقيقية، الثروة التي لا تنضب ولا يطولها النفاد.

إن فيكم من الروح الوطنية و الغيرة على الوطن ومصالحه ومن حس المواطنة الحقة ما سيحملكم على ذلك. و أنا كلي ثقة من أن آفاق واعدة تـنفتح أمام جنوبنا الكبير بفضل ما تتحلون به من علو الهمة وجدّ في السعي و قدرة خبرناها فيكم على مغالبة الصعاب و رفع التحديات و كسب الرهانات.

إن فيكم نخوةً تأبى على الوطن الضيم و إباءً لا يرضى الهوان و لا الوقوع في براثن من يتربصون به الدوائر إن دبّت بيـن أبنائه الفرقة و استشرى فيهم الانقسام.

إنه ليحدوني عميق اليقيـن من أننا سنتخطى، كلنا جميعا، في كنف الأخوة التي لم نتـنكّر لها أبدا، والتي تزداد قوة يوما بعد يوم، الأخوة التي وسمت، على الدوام، العلاقات بيـن المواطنين بِمَيْسَمِهَا، و في إطار التشاور والحوار الـمطبوع بالهدوء والسكينة، سنتخطى كافة الصعوبات التي قد تعترض سبيل مسيرتنا المشتركة صوب التقدم و الرفاه الذي يعم نفعه الـمجموعة الوطنية قاطبة.

إنني أعلم كذلك أن كل فرد منكم يضع المصالح العليا للوطن فوق كل اعتــبار. ومن ثمة، يتعيّن علينا الإقرار بأنه لا سبيل إلى التخطيط للمراحل المقبلة لتنميتنا الوطنية إن لم نكن على إلمام كاف بمكنونات باطن أرضنا من الغاز و البترول ومن الغاز الصخري.

إننا قد أقدمنا على مباشرة عمليات استكشاف قدرات البلاد من الغاز الصخري، وكل ما يجري حاليا ينحسر في عمليات الاستكشاف و التقيم، لا غير، دون أن يغيب عنا، و لو للحظة، أنه لا يحق و لا يمكن لأحد أن يجنح إلى التصرف على نحو يضر بمصالح الـمواطنيـن و بالبيئة و بالسلامة الجيولوجية لأية منطقة من مناطق البلاد، وانطلاقا من قناعات ثابتة ومؤكدة لا يمكن نقضها. وإننا سنلتزم بهذا النهج حتى يبلغ مبلغه.

هذا، و ما دمت بصدد مفاتحتكم حول مشاغلي ذات الصلة بجنوب بلادنا، هناك أمر أثار، خلال الأيام الأخيرة، بعض التساؤلات، و أعني به التقسيم الإداري الجديد الـمزمع إجراؤه في مناطق الجنوب والهضاب العليا.

في هذا الشأن، لا بد لي أن أطمئن الـمواطنات والـمواطنيـن بأن ما تم إعلانه من الاجراءات سيـنفذ فور الفراغ، قبليا، من الإجراءات التـنظيمية. في انتظار ذلك، تعكف القطاعات الـمعنية على تأميـن الظروف التقنية و توفير مختلف الوسائل اللازمة لإنجاح العملية .

أيتها السيدات الفضليات،

أيها السادة الأفاضل،

هناك انشغالات، بل توجسات، تؤرقني، فمن الفائدة، لي ولكم، أن أغتـنم هذه المناسبة وأفضي لكم بها، ونحن نحيي ذكرى هذا اليوم الأغر الذي بدأت، بفضله، الدولة الجزائرية الحديثة، الدّولة التي حلـم بها الشهداء، تخرج إلى الوجود؛ هذه الدولة التي جاءت لتخدم الشعب الجزائري الذي يصبح مديـنا لها، مقابل ذلك، بصونها والدفاع عنها لأن ديمومتها لا تتأتى بإخلاد مواطناتها ومواطنيها إلى الحياد أو إلى الوقوف وقفة الـمتفرج، في هذا الظرف الذي نرى فيه الكثيريـن منا ينساقون، و يا للأسف، لأسباب مفتعلة باطلة، إلى سقوط أخلاقي، سقوط حضاري يتنافى و كل مقومات الـمواطنة الصادقة المسؤولة.

لـما كنت من هذا الشعب و نذرت حياتي لخدمته ومقاسمته سرّاءه وضرّاءه، يملي علي الضمير و الـمنصب حيث بَوَّأَني، بمحض اختياره، أن أصارحكم و أقول لكم إنني متوجس خيفة مما قد يُقْدِمُ عليه، من منكرات، أناس من بني جلدتـنا اعترتهم نزعة خطيرة إلى اعتماد سياسة "الأرض الـمحروقة" في مسعاهم إلى الوصول إلى حكم البلاد حتى ولو كان ذلك على أنقاض دولتـنا و أشلاء شعبنا.

إنني أرى جموعا من أدعياء السياسة، تَعْمِدُ، صباح مساء، إلى بث الخوف والإحباط في نفوس أبناء هذا الشعب وبناته، و إلى هد ثقتهم في الحاضر والـمستقبل. إلا أن أراجيفهم لـم تـنطل، و لن تـنطلي، على هذا الشعب الأبي الأريب الذي يَمْقُتُ الشرَّ و من يتعاطاه، ولا يروم سوى الخروج مما بقي من تخلفه بتحويل طاقة شبابه، كل شبابه، إلى حراك وطني، شامل عارم، يبني ولا يهدم.

نحن، الآن، أمام حالة اضطرار إلى إعمال الحزم والصرامة، كل الحزم والصرامة، في الدفاع عن هذه الدولة. فهو واجب دستوري، واجب قانوني، واجب شرعي و أخلاقي لا يجوز لا تأجيله، و لا التقاعس عنه.

يجب على أخيار هذه الأمة أن يتجندوا ويتكتلوا من أجل رص بُنْيَان الجبهة الداخلية، درءا لـمخاطر السياق الراهن في منطقتـنا التي تعج بشتى أنواع الإضطرابات و التهديدات.

إن بناء هذه الجبهة الداخلية يعنينا جميعا، ووسيلته الحوار و توحيد الكلـمة والـمواقف. و لما كنا نؤمن بفضائل الحوار ونحبذ الجنوح إليه ، ونقبله مع من خالفنا في التصور السياسي لتدبير شؤون البلاد، ومن ناقضنا بأحسن مما نأتي به، لا نرى ضيرا في أن نطرق باب هذا الحوار، على ألا يكون من يأتي إليه ذا موقف مبيت على المساس بما هو قائم بمقتضى الدستور و مكرس بالإرادة الشعبية الصريحة.

الجزائر باقية، و ستظل، بإذن الله، عزيزة كريمة بأخيارها.

في مثل هذه المناسبة، تجب التحية لكل من هم جديرون بها من خَدَمَةِ الدولة بمؤسساتها و إداراتها، و إلى رجال الجيش الوطني الشعبي الأشاوس، إلى ضباطه وصف ضباطه و جنوده البواسل وكافة أسلاك الأمن الذيـن يدافعون عن حمى الجزائر رابضيـن على كل حدودها، و إلى الذيـن يجوبون منهم أوعار هذا الوطن وسهوله من أجل إجتثاث الإرهاب المقيت من جذوره وقطع شأفته.

و التحية تجب، أيضا، في هذا الـمقام، إلى كل أعوان الدولة في جميع القطاعات الذين يسهرون على بنائها و ترقية إقتصادها و مصلحة شعبها.

و لا يفوتـني أن أزجي التحية، كذلك، إلى كافة الـمواطنات و الـمواطنيـن الذيـن يدلون بدلوهم، بما يتحلون به من إخلاص وتوثب، و من وعي بالتحديات التي لا بد لبلادنا من مغالبتها، في تـنشيط مسارها التـنموي على جميع الصُّعُدِ و في ازدهارها.



عبد العزيز بوتفليقة